امرأة خلف النجوم!؟
شمس علي لطالما حدثنا عن مآثرها بزهو ، ونبرة صوته تفيض حباً ملك عليه حواسه، وها هو اليوم غادرنا ، لتحل هي عوضاً عنه.
تركتْ قريتها النائية وجاءت للإقامة معنا ، كنتُ أتحرق شوقاً للقياها، ومعايشتها عن كثب ، لكنها صدمتني !؟ هي حبيسة غرفتها صامتة صمت القبور، تتعامل معنا بجفاء وكأننا لا نعني لها شيئاً، حملتُ إليها طعامها ذات يوم، دلفتَ إلى الغرفة المكتظة بمتاعها الذي صحبته معها، وأصرتْ على إبقائه بقربها رغم أن ُجله من سقط المتاع ،مكنة خياطة يدوية عبث بها الزمن ، حصير من أسل طوي بإحكام وُأسند للجدار،جرتان من فخار وضعتا بعناية تامة فوق المنضدة ، بعض الأواني النحاسية المخضرة ُرصت أسفلها ،صندوق خشبي عتيق ُنقشتْ عليه بعض الزخارف ا لبسيطة ، ِقدر ضخم احتل مساحة شاسعة من الغرفة !.
وضعتُ الطعام على طرف السرير بجانبها وهي مستلقية، شاردة الذهن، تنبهتْ لوجودي لحظة حركتْ يدها ليلسعها طبق الحساء الساخن ، أدارتْ وجهها نحوي بنظرات متفحصة أربكتني ، ثم أشاحته به عني !
ثمة سؤال بات يؤرقني منذ قدومها ، واجهتُ به أمي ذات ظهيرة : ترى هل أحبتْ جدتي أبي كما
أحببناه..؟ فلم تلتفتْ إليَّ وهي تقلب الطعام بملعقتها الخشبية الطويلة، لتكتفي بالقول فقط :
ولمَ لمْ تحبه وهو ولدها الوحيد الذي رزقته بعد خمس فتيات.
لم تقنعني إجابة أمي أبداً ، فلو كانت أحبته،لمَ تتعامل معنا بجفاء، وهو الذي حكى عنها الأساطير، فلا يزال صوته الحنون يداعب مسامعي ، وهو يستطرد في حديثه عنها دون أن يثنيه عن ذلك غير صوت الأذان المحبب إليه وكأنه آخذٌ في الحديث عن قديسة قائلاً :
كانت تقية لأبعد الحدود، فحينما كانت تمتهن الحياكة ويسألها أحدهم عن صاحبة القماش تقطع عليه الطريق،لتلجمه بقولها : هو للباب، أو قد تقول، للنافذة، لترسم بعدها على شفتيها ابتسامتها الساحرة،وكثيراً ما غدت مقولتها تلك مدعاة لتندر الآخرين عليها، متهمينها بالسذاجة ، لكن ذلك مما كان يضاعف شغفي بها وإكباري لها (هذا ما كان يردده..في أمسياتنا الجميلة ) ليسترسل بعدها في حديث شيق عنها وقد فاضت ملامحه بشراً،وزدنا منه التصاقاً.
لم تكن إمكانياتها المادية المتواضعة جداً حجر عثرة في طريقها لفعل الخير، فدائماً ما كانت سبَّاقة إليه
رغم ما كابدته في تربية ستة أيتام ، أكبرهم كانت فتاة في الرابعة عشر، وأصغرهم كان رضيعاً لم يتم عامه الثاني بعد ، كانت تهفو لفعل المستحب كما لو كان واجباً مقدساً ، كإصرارها مثلاً على الذهاب يومياً حتى في الأيام الممطرة ، أو الشديدة القيظ إلى المسجد البعيد عن دارنا، بغية أداء الصلاة جامعة..
كانت تلفُ قدميها بقطعة قماش بالية-( لازال لونها الكالح عالقاً في ذاكرتي )- في زمن لم تعرف الأحذية
طريقها إليهم بعد، اتقاء شمس الهجير، كانت تلثم كل شيء يذكرها برحلة حجها اليتيمة ، وكان لها قلبها عطوفاً، لا يعرف الشر طريقه إليه، تغدقُ على الجميع حباً وحناناً .
ترى هل كان مبالغاً فيما كان يقول، أم أن ضوءها خفت بوفاته ؟
سؤال أورثني الغصة طويلاً،ووددتُ لو أجد له إجابةً شافية.
نشر محرم الحرام عباءته السوداء على الكون ليكسه بعضاً من شجنه، بل بعضاً من نبضه ،و بين أطرافه المترامية وجدت ضالتي ، ومع إطلالته تضاعف وجوم جدتي، وتكدست الهموم على كاهلها الستيني،وانحنت قامتها المديدة ،وغزا بشرتها البيضاء المزهرة جحافل الزمن المرير حتى بدت لي فجأة في أرذل العمر ..!
لم نعد نحظى منها بتلك الجلسات النادرة ،التي كانت تحتسي فيها معنا الشاي ، ونتبادل معها بعض الأحاديث المقتضبه .
حذرت أمي إخوتي الصغار ذات مساء مكفهر من إحداث صخب أثناء لهوهم، مخافة إزعاج جدتي قائلة : جدتكم تحنُ لمجالس العزاء التي كانت تقيمها في دارها، والتي يتعذر إقامتها ها هنا..!
لذا لا تحدثوا ضجيجاً يستثير حزنها الدفين، أبرموا لها مواثيقهم الزجاجية التي سرعان ما تطايرت شظايا مع أولى صرخاتهم العابثة، أما أنا فقد أخرجتُ جدتي من دائرة اهتمامي، وتناسيت أمجادها الغابرة ، واكتفيت بحمل الطعام لها كل يوم على مضض ، فقد سئمت صمتها المطبق ، وانتابني منه الضجر ،إلى أن أيقظني ذات ليل موحش بكائها وأنينها الذي تسلل إلى غرفتي الملاصقة لغرفتها ، وتساءلت :
ترى هل استيقظت فطرتها النائمة وبُعثت مشاعرها الميتة في هذا الليل البهيم ؟
ولأول مرة منذ أن سكنت دارنا دخلتُ غرفتها متلهفة بعد أن تعالى نشيجها، لأجدها أمامي قابعة في ركن
قصي، محتضنه قدر( البركة) الكبير، تتحسس أطرافه بأناملها كما الأم الرءوم ، وعيناها تسحان دمعاً بلل حافته، وتدحرج إلى قاعه، تملكتني عندها الدهشة وأنا أنشدها :
لمَ البكاء يا جدتي ؟ولأول مرة أبصر في عينيها التائهتين على الدوام ، بريقاً أخاذاً ، سلب لبي، وهي ترفع إليَّ رأسها ببطء هامسة : رأيتها في المنام ..رأيتها !، جثوتُ بقربها متسائلة، من يا جدتي ؟
أجابتني بفرح غامر : سيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء (ع) .
عاجلتها بالسؤال : أخبريني ؟
بتنهد قالت : منذ مدة وأنا أتألم يا ابنتي بشدة لعدم تمكني من إقامة مجلس عزاء لأبي عبد الله الحسين (ع) في بيتكم هاهنا، لذا انتابني شعور ممض، أن ربما تكون سيدتي غاضبة مني لعدم إقامتي مراسم العزاء كعادتي ، لكن هاهي ذات القلب الرحيم فداها روحي تزورني الليلة في المنام.
هززتُ رأسي حاثة إياها على المضي في الحديث ، فتابعت بعد أن التقطت بعض أنفاسها ، رأيتُ نفسي في عالم الرؤيا ، أطوف حول الضريح الشريف لأمير المؤمنين (ع)، وبعد أن ارتوت روحي ، خرجتُ من الروضة الشريفة لأجدها هناك، تجللها الأنوار القدسية ، على مقربة من البوابة الكبيرة ، مادة نحوي ذراعيها ، منادية إياي ..هلمي إليَّ ..هلمي إليَّ ، وشيئاً فشيئا، ارتفعت قدماي عن الأرض ، تلاشى جسدي ، استحال ذرات شفافة على شاكلة جسد ، ألقيتُ بنفسي نحوها ، .تلقفتني مولاتي في أحضانها الطاهرة وضمتني إليها!!
انهمرت دموع جدتي بغزارة، جذبتني إلى صدرها بحرقة مطوقة إياي منتحبة :
ليتني ما غادرتُ حضنها أبداً .
تمت
للكاتبة
شمس علي
منقوله
__________________
صراطهم هو حق اتبعه